الباب الـعاشر : الحرية الدينية في الإسلام تم آخر تحرير في 1/9/2012
الفصل الثالث : الجزية في القرآن على المعتدين جزاء عدوانهم لا على المسالمين لرفضهم اعتناق الإسلام .
لا جزية في القرآن على المسالمين من أهل الكتاب
قوله تعالى : (قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [09/التوبة29])
إن القول بأن القرآن لا يبينه غيره يترتب عليه بطلان نسبة الآثار الآمرة بفرض الجزية على أهل الكتاب عقوبة لهم على عدم إسلامهم ، وبطلان نسبة أي خبر ينسب إلى رسول الله صلعم أو إلى أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي في فرض الجزية على غير المسلمين لعدم إسلامهم . أما آية الجزية ، فلا جرم أنها دالة بالتصريح على أمر بقتال لأجل الجزية ، ودالة بالإيماء على قتال الموصوفين بأنهم أهل كتاب لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق . ومفهوم المخالفة المستنبط من هذا الوصف هو تحريم قتال من يؤمنون ويحرمون ويدينون ، فيكون سبب قتالهم امتناعهم عن اعتناق ملة الإسلام ، ويكون مقصود القتال إرغامهم على إعطاء الجزية عن يد وهو صاغرون .
وهذا المقصود وذلك السبب مناقضة لقوله تعالى (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) ، فيكون منسوخاً بآية الجزية إن صح ذلك السبب سبباً لها .
لكن الامتناع عن اعتناق ملة الإسلام ليس هو سبب آية الجزية ، ومن هنا نشأ الخطأ ـ والله أعلم ـ في تأويل الآية ، واختلقت الآثار بشأنها على رسول الله صلعم وصحابته رضي الله عنهم من بعده ، إشباعاً لشهوات ملوك بني أمية في الاستبداد والغزو والسيطرة ؛ فتحولت من سبق تشريعي وإعجاز اجتماعي ، إلى سيف سلطه سلف المسلمين على سلف الناس صدوهم به عن سبيل الله أمس ، حتى دال الزمان وضعف القوي وقوي الضعيف ؛ فرد خلف الناس لخلف المسلمين الصاع صاعين ولا يزالون إلى اليوم .
أولا : دلالات تأويل آية الجزية .
أ ـ دلالة سياق الآيات :
إن آية الجزية واقعة ضمن سياق حديث سورة براءة عن المعاهدين ، وقبلها تحدث القرآن الكريم عن غير المسلمين حديثاً عاماً يشمل المعاهدين وغيرهم فقال تعالى : (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ) (البقرة : 190ـ193) ، فلما جاءت سورة براءة خصت المعاهدين بالكلام من مطلعها إلى آية الجزية ، فيكون قصد المعاهدين من أهل الكتاب بالآية واختصاصها بهم ـ شأنها شأن آيات السورة قبلها ـ أولى من الخروج بها عن السياق ؛ لاسيما إذا كان هذا الخروج يسبب تناقضها مع آية أخرى كقوله تعالى (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) .
ب ـ دلالة سياق الآيات الأقرب :
إن أقرب جزء في السياق قبلها هو الحديث عن المعاهدين الناقضين بدءاً من قوله تعالى (وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ) (التوبة : 12) ، فيكون قصد المعاهدين الناقضين بآية الجزية واختصاصها بهم ـ شأنها شأن الآيات الأقرب ذكراً في السياق إليها ـ أولى من التجاوز إلى الآيات الأبعد ذكراً في السياق منها ؛ لاسيما إذا كان هذا التجاوز يسبب تناقضها مع آية أخرى كقوله تعالى : (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) .
ج ـ دلالة التركيب اللغوي :
إن قوله تعالى : (وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ) ليس معناه : (ولا يحرمون على أنفسهم ما حرم الله ورسوله على المسلمين من دعوى النصارى أن المسيح ابن الله أو دعوى اليهود أن عزيرا ابن الله مثلاً) ؛ إذ هو معلوم من قوله تعالى قبله : (لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِر) ، ومن قوله تعالى بعده : (وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ) ، معلوم من كل قول من الأقوال الثلاثة المتعاطفة بالواو نسقا مع قرينة (من الذين أوتوا الكتاب) أن اليهود لا يحرمون على أنفسهم دعوى أن عزيرا ابن الله وأن النصارى لا يحرمون على أنفسهم دعوى أن المسيح ابن الله ؛ فلا يليق إذن أن يعطف القرآن قوله : (لا يدينون) على قوله قبله (لا يحرمون) على قوله قبلهما : (لا يؤمنون) ، ثم يريد بكل واحد منها ـ بالنص أو التضمين ـ ذات الشيء ؛ إذ يستلزم ذلك تعاطفاً بلا تغاير ، فيكون كقول القائل : (جاء زيد وزيد) أو (جاء زيد وجاء زيد) وتكون الآية كأنها : (لا يحرمون دعوى أن المسيح ابن الله أو أن عزيرا ابن الله ولا يحرمون دعوى أن المسيح ابن الله أو أن عزيرا ابن الله ولا يحرمون دعوى أن المسيح ابن الله أو أن عزيرا ابن الله) ، وهذا عبث ؛ فيبطل ما أدى إليه ؛ فيدل البطلان على أن المعنى شيء آخر تدل عليه قرينة السياق ، والسياق حديث عن قتال و عهد ، وحين يذكر القتال والعهد في جملة واحدة أو سياق واحد فلابد من رابط بينهما ، ولا رابط محتمل بينهما إلا إما الوفاء وإما النقض ويكون قوله (قاتلوا) قرينة على إرادة الربط بالنقض دون الوفاء ؛ فتكون الجملة : (قاتلوا ناقضي العهد) ، ويكون المعنى : (ولا يحرمون) على أنفسهم من نقض العهد (ما حرم الله) على نفسه من نقضه (و) ما حرم (رسوله) على نفسه من نقضه .
وكذلك قوله تعالى (وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ) ، ليس معناه : (ولا يعتنقون ملة الإسلام) ؛ إذ هو معلوم من قوله تعالى قبله : (لاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ) ، ومن قوله قبله : (لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِر) . معلوم من كل قول من الأقوال الثلاثة المتعاطفة بالواو نسقا مع قرينة (من الذين أوتوا الكتاب) أن اليهود والنصارى لا يعتنقون ملة الإسلام ؛ فلا يليق إذن أن يعطف القرآن قوله : (لا يدينون) على قوله قبله (لا يحرمون) على قوله قبلهما : (لا يؤمنون) ، ثم يريد بكل واحد منها ـ بالنص أو التضمين ـ ذات الشيء ؛ إذ يستلزم ذلك تعاطفاً بلا تغاير ، فيكون كقول القائل : (جاء زيد وزيد) أو (جاء زيد وجاء زيد) وتكون الآية كأنها : (قاتلوا الذين لا يعتنقون ملة الإسلام ولا يعتنقون ملة الإسلام ولا يعتنقون ملة الإسلام) . وهذا عبث ؛ فيبطل ما أدى إليه ؛ فيدل البطلان على أن المعنى شيء آخر تدل عليه قرينة السياق ، والسياق كما ذكر حديث عن قتال و عهد ، وحين يذكر القتال والعهد في جملة واحدة أو سياق واحد فلابد من رابط بينهما ، ولا رابط محتمل بينهما إلا إما الوفاء وإما النقض ويكون قوله (قاتلوا) قرينة على إرادة الربط بالنقض دون الوفاء ؛ فتكون الجملة : (قاتلوا ناقضي العهد) ، ويكون النص (وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ) معناه : (ولا يلتزمون التزام الحق) ، أي (ولا يلتزمون) بالعهود (التزاماً حقيقياً) سالماً من الخيانة والمخادعة .
د ـ دلالة الميزان العقلي :
الميزان العقلي قرآن رباني منشور في الأنفس والآفاق ، تماماً كقرآن الله المسطور في المصحف ، ولا عجب والذي أنزل المسطور هو نفسه الذي وهب المنشور ، والقرآن قد حرم التعرض بسوء للمعاهدين المسالمين من المشركين فقال تعالى (إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [09/التوبة4]) وقال (إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [09/التوبة7]) والمعاهدون عند المسجد الحرام كانوا مشركين ، فلم يكن في مكة يهودي ولا نصراني ، فكيف يحرم القرآن التعرض بسوء للمشرك المسالم ، ثم يبيح دم الكتابي المسالم ؛ لاسيما والمتبقي من دين أهل الكتاب خير ـ ولا ريب ـ من دين المشركين ، ولاسيما أيضاً أن أهل الكتاب منهم النصارى الذين نص القرآن على أنهم أقرب الناس مودة للمؤمنين من المشركين .
هـ ـ الخطأ في تفسير الصغار :
من التفسيرات الخاطئة لمعنى الصغار تفسيره بالذلة في قوله تعالى (عن يد وهم صاغرون) لقوله تعالى (وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ) (النمل : 37) ، إذ لو كان الصغار هو الذلة لصارت الآية كأنها : (ولنخرجنهم منها أذلة وهم أذلة) أي : (أذلة وأذلة) أو (وهم أذلة ، وهم أذلة) ، وهذا عبث ؛ فيبطل ما أدى إليه ؛ فيدل البطلان على أن المقصود بالصغار شيء آخر ، هو الانهزام أو الضعف المادي وقد ينهزم المرء ماديا لكنه يظل عزيز النفس كالشهيد ينهزم لكنه لا يستسلم ولا يذل بل يقتل ، والله أعلم .
و ـ الخطأ في تفسير اليد :
كما أن من التفسيرات الخاطئة أيضاً هنا القول بأن (عن يد) بمعنى : (عن قدرة أو نعمة للمسلمين عليهم قدرة قهر منهم لهم) وأن الجار والمجرور (عن يد) في محل نصب حال بمعنى قادرين أو منعمين وأن صاحب هذه الحال هو المعمول ضمير المسلمين الفاعلين المقترن بالفعل (قاتلوا) وعلى هذا التوجيه يكون في الآية تقديم وتأخير وأصل الترتيب هو (قاتلوهم عن يد ليعطوا وهم صاغرون) أي (قاتلوهم قادرين) أي (قاتلوهم إن استطعتم) ومن المعلوم أن لفظ اليد أصل في الجارحة ولكنه يستعار لمعنى النعمة لأن اليد تمتد بالمنعم به إلى المنعم عليه كما يستعار لمعنى الحوز أوالملك لأن اليد تمتد فتمسك المحوز المملوك كما يستعار لمعنى القوة لأن اليد بقوتها تبطش
ولكن هذا تفسير خاطئ لما يلي
ـ لأنه تفسير بالمعنى الأبعد بلا دليل لأنه مبني على القول بالتقديم والتأخير بلا دليل وهو خروج بلا دليل على الأصل الذي هو عودة الحال إلى أقرب صاحب صالح وهو هنا ضمير الكتابيين الفاعلين المقترن بالفعل (يعطوا) والمعنى الأقرب هو الأصل ولا مانع منه فهو الصواب وهو (قاتلوهم حتى يعطوها قادرين على إعطائها مغلوبين منكم) أي (قاتلوهم حتى تغلبوهم ويعطوها إن استطاعوا) فيكون مفهوم المخالفة هو (قاتلوهم حتى تغلبوهم واعفوا عن الجزية إن لم يستطيعوا إعطاءها أو اجعلوها ديناً إلى ميسرة) وهذه رحمة قرآنية وسعت المعتدين كما في قوله تعالى (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [07/الأعراف156])
ـ ولأن هذا التفسير بهذا المعنى الأبعد يجعل القرآن ساكتا عن الحكم في حالة عجز الصاغرين عن إعطاء الجزية وهي حالة ربما تقع ونحن بحاجة إلى حكم فيها بينما التفسير الذي ذكرناه يجعل للقرآن حكما في هذه الحالة وهو الأليق بكون القرآن دينا كاملا ونعمة تامة
ـ ولأن هذا التفسير بهذا المعنى الأبعد يجعل (عن يد) بمعنى قدرة المسلمين يعنى بمعنى ضعف الكتابيين فيكون معنى : (عن يد وهم صاغرون) هو : (عن ضعف من الكتابيين وهم ضعفاء) ، أي (عن ضعف وضعف) وهذا عبث ؛ فيبطل ما أدى إليه ؛ فيدل البطلان على أن المقصود هنا من قول (عن يد) هو : (عن قدرة من الكتابيين على دفع الجزية) وليس : (عن قدرة من المسلمين على إذلالهم) . قال تعالى (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ) (ص : 17) ، أي القوي ، وقال تعالى (أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَار) (ص : 45) ، أي أولي القوى والإفهام .
ثانيا : فضل الله على أهل الكتاب في آية الجزية .
يبقى السؤال في النهاية ، لماذا أفرد القرآن أهل الكتاب بالذكر؟ فلم يجعلهم مع المشركين في خطاب واحد ، فلم يقل : (بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الكافرين) ، ولم يقل : (إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الكافرين) ،ولم يقل : (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الكافرين اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ) ،ولم يقل : (كَيْفَ يَكُونُ للكافرين عَهْدٌ) .
والجواب ـ لو يرقبه أهل الكتاب من المسلمين وغيرهم ـ خصوصية وتكريم قرآني وإيثار وتفضيل رباني لأهل الكتاب على المشركين وتيسير لعوامل القربى بين أهل الكتاب وبين المسلمين .
1 ـ فآية الجزية قد حرمت دماء أهل الكتاب الناقضين إذ مكنتهم من فداء أنفسهم بأموالهم ولو كره المسلمون ، بينما لم يمكن القرآن المشركين الناقضين عهدهم مع رسول الله من مثل ذلك .
2 ـ كما أن الكتابي لا ينتفع بشيء زائد لو قيل (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الكافرين اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ) (التوبة : 6) ، لأن دم الكتابي الناقض في مأمن وقد أذن له في فداء نفسه ، فلا حاجة به إلى الإجارة لأن الإجارة تكون من خوف وهو ليس خائفاً ؟.
3 ـ كما أن آية الجزية أعفت المعتدين الكتابيين من الجزية إن عجزوا عن أدائها أو جعلتها ديناً إلى ميسرة .
4 ـ فآية الجزية استكمال لسياق محبة القرآن أن يقترب أهل الكتاب المسلمون من أهل الكتاب اليهود والنصاري دون المشركين ؛ ذلك السياق الذي أحل فيه الزواج بين المسلمين وبين اليهود والنصارى دون المشركين ، وحرم فيه على المشركين قربى المسجد الحرام بينما لم يحرمه على أهل الكتاب . قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عامهم هذا) (التوبة : 28) .
ثالثا ـ جواز مصالحة الكتابيين المعتدين دون جزية .
وهو واضح من جملة الحال (وهم صاغرون) أي فلا إلزام بإعطاء الجزية إلا في حال الصغار حال الهزيمة فإذا لم تكن هزيمة للمعتدين وجنحوا للسلم وجبت إجابتهم دون طلب جزية وهذه موافقة قرآنية لصريح المعقول إذ كيف نطلب جزية من معتدين لم نتمكن من هزيمتهم كما أن هذا اتساق قرآني في معاملته للكتابيين مع معاملته للمشركين لأنه لما أقر المعتدين المشركين على الصلح إن جنحوا للسلم غير مهزومين دون قيد ولا شرط كان أليق من باب أولى أن لا يشترط شرطا لا جزية ولا غيرها على من هم خير من المشركين من الكتابيين المعتدين إن جنحوا للسلم غير مهزومين .
رابعا ـ حقيقة الجزية وخلاصة حكمها .
1 ـ الخلاصة أن حقيقة الجزية محض غرامة أو تعويض ، عما لحق المسلمين من ضرر مادي أو معنوي ؛ جراء إخلال أهل الكتاب بالتزاماتهم ، المتفق عليها بينهم وبين المسلمين ، بنقضهم عهدهم معهم ، وليس عقوبة على استمساكهم بملتهم وإبائهم اعتناق ملة الإسلام .
2 ـ وتكون الجزية على ذلك مستحقة على المسلمين لأهل الكتاب إذا كان النقض من المسلمين ، غرامة أو تعويضاً ، عما لحق أهل الكتاب من ضرر مادي أو معنوي ؛ جراء إخلال المسلمين بالتزاماتهم ، المتفق عليها بينهم وبين أهل الكتاب ، بنقضهم عهدهم معهم .
3 ـ فشأن الجزية شأن أي تعويض تضمنه أي تشريع في أي دولة في أي زمان أو مكان ؛ جراء إخلال أحد أطراف العقد الاجتماعي بأي التزام أوجبه ذلك التشريع ، سواء أكان بعض أطراف العقد أو كلهم مؤمناً أو كافراً .
الفصل الرابع : بطلان نسبة الإكراه في الدين إلى السنة النبوية
أولا : حديث الأمر بمقاتلة الناس لإدخالهم في الدين
ثانيا ـ أحاديث القتل والأمر بقتل المرتدين
الفصل الثالث : الجزية في القرآن على المعتدين جزاء عدوانهم لا على المسالمين لرفضهم اعتناق الإسلام .
لا جزية في القرآن على المسالمين من أهل الكتاب
قوله تعالى : (قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [09/التوبة29])
إن القول بأن القرآن لا يبينه غيره يترتب عليه بطلان نسبة الآثار الآمرة بفرض الجزية على أهل الكتاب عقوبة لهم على عدم إسلامهم ، وبطلان نسبة أي خبر ينسب إلى رسول الله صلعم أو إلى أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي في فرض الجزية على غير المسلمين لعدم إسلامهم . أما آية الجزية ، فلا جرم أنها دالة بالتصريح على أمر بقتال لأجل الجزية ، ودالة بالإيماء على قتال الموصوفين بأنهم أهل كتاب لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق . ومفهوم المخالفة المستنبط من هذا الوصف هو تحريم قتال من يؤمنون ويحرمون ويدينون ، فيكون سبب قتالهم امتناعهم عن اعتناق ملة الإسلام ، ويكون مقصود القتال إرغامهم على إعطاء الجزية عن يد وهو صاغرون .
وهذا المقصود وذلك السبب مناقضة لقوله تعالى (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) ، فيكون منسوخاً بآية الجزية إن صح ذلك السبب سبباً لها .
لكن الامتناع عن اعتناق ملة الإسلام ليس هو سبب آية الجزية ، ومن هنا نشأ الخطأ ـ والله أعلم ـ في تأويل الآية ، واختلقت الآثار بشأنها على رسول الله صلعم وصحابته رضي الله عنهم من بعده ، إشباعاً لشهوات ملوك بني أمية في الاستبداد والغزو والسيطرة ؛ فتحولت من سبق تشريعي وإعجاز اجتماعي ، إلى سيف سلطه سلف المسلمين على سلف الناس صدوهم به عن سبيل الله أمس ، حتى دال الزمان وضعف القوي وقوي الضعيف ؛ فرد خلف الناس لخلف المسلمين الصاع صاعين ولا يزالون إلى اليوم .
أولا : دلالات تأويل آية الجزية .
أ ـ دلالة سياق الآيات :
إن آية الجزية واقعة ضمن سياق حديث سورة براءة عن المعاهدين ، وقبلها تحدث القرآن الكريم عن غير المسلمين حديثاً عاماً يشمل المعاهدين وغيرهم فقال تعالى : (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ) (البقرة : 190ـ193) ، فلما جاءت سورة براءة خصت المعاهدين بالكلام من مطلعها إلى آية الجزية ، فيكون قصد المعاهدين من أهل الكتاب بالآية واختصاصها بهم ـ شأنها شأن آيات السورة قبلها ـ أولى من الخروج بها عن السياق ؛ لاسيما إذا كان هذا الخروج يسبب تناقضها مع آية أخرى كقوله تعالى (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) .
ب ـ دلالة سياق الآيات الأقرب :
إن أقرب جزء في السياق قبلها هو الحديث عن المعاهدين الناقضين بدءاً من قوله تعالى (وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ) (التوبة : 12) ، فيكون قصد المعاهدين الناقضين بآية الجزية واختصاصها بهم ـ شأنها شأن الآيات الأقرب ذكراً في السياق إليها ـ أولى من التجاوز إلى الآيات الأبعد ذكراً في السياق منها ؛ لاسيما إذا كان هذا التجاوز يسبب تناقضها مع آية أخرى كقوله تعالى : (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) .
ج ـ دلالة التركيب اللغوي :
إن قوله تعالى : (وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ) ليس معناه : (ولا يحرمون على أنفسهم ما حرم الله ورسوله على المسلمين من دعوى النصارى أن المسيح ابن الله أو دعوى اليهود أن عزيرا ابن الله مثلاً) ؛ إذ هو معلوم من قوله تعالى قبله : (لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِر) ، ومن قوله تعالى بعده : (وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ) ، معلوم من كل قول من الأقوال الثلاثة المتعاطفة بالواو نسقا مع قرينة (من الذين أوتوا الكتاب) أن اليهود لا يحرمون على أنفسهم دعوى أن عزيرا ابن الله وأن النصارى لا يحرمون على أنفسهم دعوى أن المسيح ابن الله ؛ فلا يليق إذن أن يعطف القرآن قوله : (لا يدينون) على قوله قبله (لا يحرمون) على قوله قبلهما : (لا يؤمنون) ، ثم يريد بكل واحد منها ـ بالنص أو التضمين ـ ذات الشيء ؛ إذ يستلزم ذلك تعاطفاً بلا تغاير ، فيكون كقول القائل : (جاء زيد وزيد) أو (جاء زيد وجاء زيد) وتكون الآية كأنها : (لا يحرمون دعوى أن المسيح ابن الله أو أن عزيرا ابن الله ولا يحرمون دعوى أن المسيح ابن الله أو أن عزيرا ابن الله ولا يحرمون دعوى أن المسيح ابن الله أو أن عزيرا ابن الله) ، وهذا عبث ؛ فيبطل ما أدى إليه ؛ فيدل البطلان على أن المعنى شيء آخر تدل عليه قرينة السياق ، والسياق حديث عن قتال و عهد ، وحين يذكر القتال والعهد في جملة واحدة أو سياق واحد فلابد من رابط بينهما ، ولا رابط محتمل بينهما إلا إما الوفاء وإما النقض ويكون قوله (قاتلوا) قرينة على إرادة الربط بالنقض دون الوفاء ؛ فتكون الجملة : (قاتلوا ناقضي العهد) ، ويكون المعنى : (ولا يحرمون) على أنفسهم من نقض العهد (ما حرم الله) على نفسه من نقضه (و) ما حرم (رسوله) على نفسه من نقضه .
وكذلك قوله تعالى (وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ) ، ليس معناه : (ولا يعتنقون ملة الإسلام) ؛ إذ هو معلوم من قوله تعالى قبله : (لاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ) ، ومن قوله قبله : (لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِر) . معلوم من كل قول من الأقوال الثلاثة المتعاطفة بالواو نسقا مع قرينة (من الذين أوتوا الكتاب) أن اليهود والنصارى لا يعتنقون ملة الإسلام ؛ فلا يليق إذن أن يعطف القرآن قوله : (لا يدينون) على قوله قبله (لا يحرمون) على قوله قبلهما : (لا يؤمنون) ، ثم يريد بكل واحد منها ـ بالنص أو التضمين ـ ذات الشيء ؛ إذ يستلزم ذلك تعاطفاً بلا تغاير ، فيكون كقول القائل : (جاء زيد وزيد) أو (جاء زيد وجاء زيد) وتكون الآية كأنها : (قاتلوا الذين لا يعتنقون ملة الإسلام ولا يعتنقون ملة الإسلام ولا يعتنقون ملة الإسلام) . وهذا عبث ؛ فيبطل ما أدى إليه ؛ فيدل البطلان على أن المعنى شيء آخر تدل عليه قرينة السياق ، والسياق كما ذكر حديث عن قتال و عهد ، وحين يذكر القتال والعهد في جملة واحدة أو سياق واحد فلابد من رابط بينهما ، ولا رابط محتمل بينهما إلا إما الوفاء وإما النقض ويكون قوله (قاتلوا) قرينة على إرادة الربط بالنقض دون الوفاء ؛ فتكون الجملة : (قاتلوا ناقضي العهد) ، ويكون النص (وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ) معناه : (ولا يلتزمون التزام الحق) ، أي (ولا يلتزمون) بالعهود (التزاماً حقيقياً) سالماً من الخيانة والمخادعة .
د ـ دلالة الميزان العقلي :
الميزان العقلي قرآن رباني منشور في الأنفس والآفاق ، تماماً كقرآن الله المسطور في المصحف ، ولا عجب والذي أنزل المسطور هو نفسه الذي وهب المنشور ، والقرآن قد حرم التعرض بسوء للمعاهدين المسالمين من المشركين فقال تعالى (إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [09/التوبة4]) وقال (إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [09/التوبة7]) والمعاهدون عند المسجد الحرام كانوا مشركين ، فلم يكن في مكة يهودي ولا نصراني ، فكيف يحرم القرآن التعرض بسوء للمشرك المسالم ، ثم يبيح دم الكتابي المسالم ؛ لاسيما والمتبقي من دين أهل الكتاب خير ـ ولا ريب ـ من دين المشركين ، ولاسيما أيضاً أن أهل الكتاب منهم النصارى الذين نص القرآن على أنهم أقرب الناس مودة للمؤمنين من المشركين .
هـ ـ الخطأ في تفسير الصغار :
من التفسيرات الخاطئة لمعنى الصغار تفسيره بالذلة في قوله تعالى (عن يد وهم صاغرون) لقوله تعالى (وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ) (النمل : 37) ، إذ لو كان الصغار هو الذلة لصارت الآية كأنها : (ولنخرجنهم منها أذلة وهم أذلة) أي : (أذلة وأذلة) أو (وهم أذلة ، وهم أذلة) ، وهذا عبث ؛ فيبطل ما أدى إليه ؛ فيدل البطلان على أن المقصود بالصغار شيء آخر ، هو الانهزام أو الضعف المادي وقد ينهزم المرء ماديا لكنه يظل عزيز النفس كالشهيد ينهزم لكنه لا يستسلم ولا يذل بل يقتل ، والله أعلم .
و ـ الخطأ في تفسير اليد :
كما أن من التفسيرات الخاطئة أيضاً هنا القول بأن (عن يد) بمعنى : (عن قدرة أو نعمة للمسلمين عليهم قدرة قهر منهم لهم) وأن الجار والمجرور (عن يد) في محل نصب حال بمعنى قادرين أو منعمين وأن صاحب هذه الحال هو المعمول ضمير المسلمين الفاعلين المقترن بالفعل (قاتلوا) وعلى هذا التوجيه يكون في الآية تقديم وتأخير وأصل الترتيب هو (قاتلوهم عن يد ليعطوا وهم صاغرون) أي (قاتلوهم قادرين) أي (قاتلوهم إن استطعتم) ومن المعلوم أن لفظ اليد أصل في الجارحة ولكنه يستعار لمعنى النعمة لأن اليد تمتد بالمنعم به إلى المنعم عليه كما يستعار لمعنى الحوز أوالملك لأن اليد تمتد فتمسك المحوز المملوك كما يستعار لمعنى القوة لأن اليد بقوتها تبطش
ولكن هذا تفسير خاطئ لما يلي
ـ لأنه تفسير بالمعنى الأبعد بلا دليل لأنه مبني على القول بالتقديم والتأخير بلا دليل وهو خروج بلا دليل على الأصل الذي هو عودة الحال إلى أقرب صاحب صالح وهو هنا ضمير الكتابيين الفاعلين المقترن بالفعل (يعطوا) والمعنى الأقرب هو الأصل ولا مانع منه فهو الصواب وهو (قاتلوهم حتى يعطوها قادرين على إعطائها مغلوبين منكم) أي (قاتلوهم حتى تغلبوهم ويعطوها إن استطاعوا) فيكون مفهوم المخالفة هو (قاتلوهم حتى تغلبوهم واعفوا عن الجزية إن لم يستطيعوا إعطاءها أو اجعلوها ديناً إلى ميسرة) وهذه رحمة قرآنية وسعت المعتدين كما في قوله تعالى (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [07/الأعراف156])
ـ ولأن هذا التفسير بهذا المعنى الأبعد يجعل القرآن ساكتا عن الحكم في حالة عجز الصاغرين عن إعطاء الجزية وهي حالة ربما تقع ونحن بحاجة إلى حكم فيها بينما التفسير الذي ذكرناه يجعل للقرآن حكما في هذه الحالة وهو الأليق بكون القرآن دينا كاملا ونعمة تامة
ـ ولأن هذا التفسير بهذا المعنى الأبعد يجعل (عن يد) بمعنى قدرة المسلمين يعنى بمعنى ضعف الكتابيين فيكون معنى : (عن يد وهم صاغرون) هو : (عن ضعف من الكتابيين وهم ضعفاء) ، أي (عن ضعف وضعف) وهذا عبث ؛ فيبطل ما أدى إليه ؛ فيدل البطلان على أن المقصود هنا من قول (عن يد) هو : (عن قدرة من الكتابيين على دفع الجزية) وليس : (عن قدرة من المسلمين على إذلالهم) . قال تعالى (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ) (ص : 17) ، أي القوي ، وقال تعالى (أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَار) (ص : 45) ، أي أولي القوى والإفهام .
ثانيا : فضل الله على أهل الكتاب في آية الجزية .
يبقى السؤال في النهاية ، لماذا أفرد القرآن أهل الكتاب بالذكر؟ فلم يجعلهم مع المشركين في خطاب واحد ، فلم يقل : (بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الكافرين) ، ولم يقل : (إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الكافرين) ،ولم يقل : (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الكافرين اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ) ،ولم يقل : (كَيْفَ يَكُونُ للكافرين عَهْدٌ) .
والجواب ـ لو يرقبه أهل الكتاب من المسلمين وغيرهم ـ خصوصية وتكريم قرآني وإيثار وتفضيل رباني لأهل الكتاب على المشركين وتيسير لعوامل القربى بين أهل الكتاب وبين المسلمين .
1 ـ فآية الجزية قد حرمت دماء أهل الكتاب الناقضين إذ مكنتهم من فداء أنفسهم بأموالهم ولو كره المسلمون ، بينما لم يمكن القرآن المشركين الناقضين عهدهم مع رسول الله من مثل ذلك .
2 ـ كما أن الكتابي لا ينتفع بشيء زائد لو قيل (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الكافرين اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ) (التوبة : 6) ، لأن دم الكتابي الناقض في مأمن وقد أذن له في فداء نفسه ، فلا حاجة به إلى الإجارة لأن الإجارة تكون من خوف وهو ليس خائفاً ؟.
3 ـ كما أن آية الجزية أعفت المعتدين الكتابيين من الجزية إن عجزوا عن أدائها أو جعلتها ديناً إلى ميسرة .
4 ـ فآية الجزية استكمال لسياق محبة القرآن أن يقترب أهل الكتاب المسلمون من أهل الكتاب اليهود والنصاري دون المشركين ؛ ذلك السياق الذي أحل فيه الزواج بين المسلمين وبين اليهود والنصارى دون المشركين ، وحرم فيه على المشركين قربى المسجد الحرام بينما لم يحرمه على أهل الكتاب . قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عامهم هذا) (التوبة : 28) .
ثالثا ـ جواز مصالحة الكتابيين المعتدين دون جزية .
وهو واضح من جملة الحال (وهم صاغرون) أي فلا إلزام بإعطاء الجزية إلا في حال الصغار حال الهزيمة فإذا لم تكن هزيمة للمعتدين وجنحوا للسلم وجبت إجابتهم دون طلب جزية وهذه موافقة قرآنية لصريح المعقول إذ كيف نطلب جزية من معتدين لم نتمكن من هزيمتهم كما أن هذا اتساق قرآني في معاملته للكتابيين مع معاملته للمشركين لأنه لما أقر المعتدين المشركين على الصلح إن جنحوا للسلم غير مهزومين دون قيد ولا شرط كان أليق من باب أولى أن لا يشترط شرطا لا جزية ولا غيرها على من هم خير من المشركين من الكتابيين المعتدين إن جنحوا للسلم غير مهزومين .
رابعا ـ حقيقة الجزية وخلاصة حكمها .
1 ـ الخلاصة أن حقيقة الجزية محض غرامة أو تعويض ، عما لحق المسلمين من ضرر مادي أو معنوي ؛ جراء إخلال أهل الكتاب بالتزاماتهم ، المتفق عليها بينهم وبين المسلمين ، بنقضهم عهدهم معهم ، وليس عقوبة على استمساكهم بملتهم وإبائهم اعتناق ملة الإسلام .
2 ـ وتكون الجزية على ذلك مستحقة على المسلمين لأهل الكتاب إذا كان النقض من المسلمين ، غرامة أو تعويضاً ، عما لحق أهل الكتاب من ضرر مادي أو معنوي ؛ جراء إخلال المسلمين بالتزاماتهم ، المتفق عليها بينهم وبين أهل الكتاب ، بنقضهم عهدهم معهم .
3 ـ فشأن الجزية شأن أي تعويض تضمنه أي تشريع في أي دولة في أي زمان أو مكان ؛ جراء إخلال أحد أطراف العقد الاجتماعي بأي التزام أوجبه ذلك التشريع ، سواء أكان بعض أطراف العقد أو كلهم مؤمناً أو كافراً .
الفصل الرابع : بطلان نسبة الإكراه في الدين إلى السنة النبوية
أولا : حديث الأمر بمقاتلة الناس لإدخالهم في الدين
ثانيا ـ أحاديث القتل والأمر بقتل المرتدين