الباب الـعاشر : الحرية الدينية في الإسلام تم آخر تحرير في 11/12/2011
القرآن يحرم التعرض بسوء للمرتد المسالم
الفصل الثاني : لا حد ردة في الإسلام طبقا لنصوص القرآن .
أي إنها باطلة نسبة الآثار الآمرة بقتل المرتد المسالم ، نحو : (من بدل دينه فاقتلوه) ، إن كان المعنى : (من كفر بالله بعد إسلامه فاقتلوه) ، وباطلة نسبة أي خبر ينسب إلى رسول الله صلعم أو إلى أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم في قتل المرتد عن الإسلام لمحض ردته ، وجلاء ذلك بتدبر النصوص القرآنية التي تحرم التعرض بسوء للمرتد المسالم كما يلي :
من كفر بالله بعد إيمانه فهو مرتد ، ومن ارتد وأعلن ردته فهو مرتد مطلقاً عندنا وعند الله تعالى ومن ارتد وأخفى ردته فلم نطلع عليها فهو عند الله تعالى مرتد منافق وعندنا مسلم ، ومن ارتد وأخفى ردته لكننا اكتشفناها رغم محاولته إخفاءها فهو عند الله تعالى وعندنا مرتد منافق . والمرتد المنافق عند الله المسلم عندنا ، مرتد باعتبار حقيقة ردته ، منافق باعتبار محاولته إخفاءها ، مسلم باعتبار ظاهر إسلامه لنا . وليس هناك أحكام خاصة بالمنافقين تميزهم عن الكافرين إذا ظهرت حقيقتهم ، كما أنه ليس هناك أحكام خاصة بالمنافقين تميزهم عن المسلمين إذا خفيت حقيقتهم . فالنفاق وصف إضافي للكافر المعلومة حقيقته باعتبار محاولته إخفاء كفره ، لكن هذا الوصف لا يرتب أحكاماً على هذا المنافق غير الأحكام المقررة بشأن الكافرين . فمن نافق فلم نطلع على نفاقه فهو مسلم عندنا تجري عليه أحكام المسلمين ، ومن نافق فاطلعنا على نفاقه رغم محاولته التخفي فهو كافر عندنا تجري عليه أحكام الكافرين ، فإن كان نفاقه بعد إيمان فهو مرتد . وليس هناك أحكام تخص من ارتد بعد إيمان حقيقي ، وتميزه عمن ارتد بعد إسلام ظاهري خال من حقيقة الإيمان ؛ لأنه لا أحد إلا الله تعالى يعلم من هو مؤمن حقاً ممن هو مسلم في الظاهر عار عن حقيقة الإيمان ، فمن تظاهر بالإسلام ثم ارتد فعرفناه مرتداً رغم محاولته التخفي فهو مرتد تسري عليه أحكام الكافرين بعد إيمان .
وهذه التقدمة ضرورية قبل تدبر النصيين التاليين حتى لا يعترض بأن الآيات في المنافقين لا في المرتدين ، فالمنافق إذا اكتشف نفاقه حكمه حكم المرتد المعالن بردته .
أولا ـ النص اليقيني الأول في المرتد المسالم .
قوله تعالى : (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً * وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً * إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَآؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا * سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَـئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً [04/النساء88ـ91]) هذه الآيات نزلت في مرتدين ، بدليل أن هؤلاء المنافقين معروف نفاقهم ، فقوله تعالى (فخذوهم واقتلوهم . . .) دليل على أن نفاقهم قد انكشف ، فهم معروفون ؛ إذ كيف يأمر الله بأخذ وقتل من لا تعرف عينه ؟ وإذن فهؤلاء مرتدون عندنا ، تجري عليهم أحكام الردة بعد إيمان . وقوله تعالى (فخذوهم واقتلوهم) هو حكم الله فيهم . لكن الله استثنى من هؤلاء المرتدين فرقاً ثلاثة حرم قتلهم أو التعرض لهم رغم ردتهم :
1 ـ الفريق الأول : في قوله صلعم : (إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ) أي ينتقلون من دار قومهم إلى دار قوم آخرين مسالمين لكم ، وفيه دلالة على أن قومهم حرب على المؤمنين . وأن انتقالهم من دار قومهم المحاربين للمؤمنين إلى دار كفار آخرين مسالمين للمؤمنين اختيار منهم للمسالمة ؛ إذ لابد لهم من التزام ميثاق مضيفيهم وهو مسالمة المؤمنين
2 ـ الفريق الثاني : في قوله تعالى : (أَوْ جَآؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ) ، أي جاؤوكم وأعلنوكم بأنهم لن يقاتلوكم مع قومهم ولن يقاتلوا معكم قومهم ، فهؤلاء اختاروا المسالمة بالوقوف على الحياد بينكم أيها المؤمنون وبين قومهم الكافرين المحاربين لكم .
فهذا الفريقان حقن الله دماءهما وحرم على المؤمنين التعرض بسوء لهما فقال : (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا) .
3 ـ أما الفريق الثالث : فمذبذبون ، إذا لقوا الذين آمنوا قالوا إنا معكم على عدوكم ، وإذا لقوا قومهم أعداء المؤمنين انقلبوا على أعقابهم . وهؤلاء مد الله لهم حبال العذر ، فعلق شأنهم على ما سيكون منهم من فعل في واقع الأمر فقال : (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ) أي (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فلا تأخذوهم ولا تقتلوهم) وهذا هو المفهوم من ذكر الشرط ؛ فليس في السياق أي فائدة للتخصيص بالشرط غير المخالفة المفهومة من هذا التخصيص ، وبدونها يغدو الشرط لغواً ، والقرآن منزه عن اللغو ، لاسيما ومفهوم هذا الشرط لا يخالف منطوق أي نص قرآني بل ويوافق منطوق (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) .
فهذه فرق ثلاث حقن الله دماءهم وحرم التعرض لهم ، رغم ردتهم وبقائهم على الردة ، وهم موصوفون بأوصاف ثلاثة يجمع بينها كلها معنى المسالمة ، فالفريق الأول سالم بالمقام بين المسالمين ، والثاني أعلن المسالمة بإعلان الحياد ، والثالث فعل المسالمة بعد تذبذب . فإذ نظرنا فيما يتبقى من المستثنى منه بعد هذه الاستثناءات الثلاثة فلن نجد إلا فريقاً واحداً رابعاً فقط ، هم المتبقين تحت طائلة الطلب والأخذ والحصر والقتل ، ألا وإنهم هم المحاربون للمؤمنين . فالفرق الأربعة كلهم مرتدون ، لكن بعضهم حلال الدم وبعضهم حرامه ، ولو كان مناط حكمهم هو الردة لما فرق الله بينهم بحل دم بعضهم وتحريم دم سائرهم .
وبهذا يتجلى أن مناط الحكم شيء آخر غير محض الردة ، فالمسالمة جمعت الفرق الثلاث فاتحد حكمهم ، فكانت وحدة الحكم دليلاً على أن سببه هو وحدة الوصف الجامع لهم ، وهو المسالمة ، أما الفريق الرابع فانفرد بالمحاربة وانفرد بحكم القتل ، فدل انفراده بحكم القتل على انفراد وصف المحاربة بالتسبب في هذا الحكم ، ويتجلى في النهاية أن المرتد المسالم دمه حرام ولا يحل التعرض له بسوء .
ثانيا : النص اليقيني الثاني في المرتد المسالم .
هو قوله تعالى : (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ * وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ * وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ * وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ * رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ * لَـكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [09/التوبة81ـ96]) .
فقوله (إنهم كفروا) نص على كفرهم ، وكذلك قوله : (إنهم رجس ومأواهم جهنم) ، وسياق الآيات كله يدل على أن الرسول والمؤمنين يعرفونهم ، فهؤلاء إذن مرتدون معروفون حكمهم حكم المرتدين الذين كفروا بعد إيمان .
وقوله : (يعتذرون) كشف لمحاولاتهم إخفاء نفاقهم ، وكذلك قوله : (قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم) . والسياق كله يدل على أنهم مسالمون ، فهم يعتذرون ويحلفون بالله للمؤمنين ليسلموا منهم ، فهؤلاء إذن مرتدون معروفون لرسول الله ، ورغم ذلك نهى الله رسوله عن التعرض لهم بسوء فقال : (فأعرضوا عنهم) .
ثالثا : النص اليقيني الثالث في المرتد المسالم .
وهو النص العام : (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) ، فكما أنه لا يجوز استعمال الإكراه لإدخال الناس في الدين ، فكذلك لا يجوز استعماله لمنعهم من الخروج منه ؛ فكلتا الحالتين إكراه في الدين . والآية لم تخص أياً منهما دون الأخرى بالنهي ، ولا خصت أيا منهما به أي آية غيرها في القرآن . وأما التعلل بكيد الذين يقولون آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ، والتذرع بحماية الدين من المتلاعبين ، فافتئات على القرآن ، وتقديم بين يدي الله ، وغفلة عما أكدته عوادي الزمان في الأنفس والآفاق . فالإكراه لا يمنع وقوع الكفر ، إنما يمنع ظهوره ؛ فيظل النفاق ينخر عظام الدين ، وأهل الدين لا يشعرون ؛ فلا يعالجون أسبابه ولا يفندون الشبهات التي أدت إليه ، ويظل النفاق في ازدياد حتى تقوى شوكة أهله ، وبعدئذ وفي أول فرصة تواتيهم يقلبون النظم الاجتماعية رأساً على عقب ، ولا أعني بالنفاق معناه الضيق ، وإنما أعني حتى نفاق الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض ، ونفاق المتدينين الذين يكفرون ببعض الدين لأنهم لا يرونه ديناً ، بينما يؤمن آخرون غيرهم به ، ويكفرون بما يؤمن به الأولون لأنهم لا يرونه ديناً ، أعنى أيضاً نفاق هؤلاء أو ما يسمونه التقية ؛ لما يناله كل منهم من عنت حين يحكمه من يؤمن بما يكفر هو به ويكفر بما يؤمن هو به ، فإذا حكم الشيعة كره السنة ، وإذا حكم السنة كره الشيعة ، وإذا حكم الحنابلة كره الأحناف . . . وهلم جرا ، حتى يصل العنت أن يتمنى المحكوم منهم أن يحكم بغير ما يعلم من إسلام هؤلاء الحكام ؛ لعل الوطأة تكون أخف . وإني لأحسب أنه لولا أن هذه الحال التي وصفت كانت مائلة في المسلمين يوم غزاهم أعداؤهم وأشاعوا فيهم الفواحش والحكم بغير ما أنزل الله ما غزوهم ، ولولا أن هذه الحال بقيت بعد جلاء الغزاة ولا تزال لما بقينا اليوم شائعة فينا الفواحش محكومين بغير ما أنزل الله ، ولما بقيت أحوالنا في واد وتعاليم القرآن في واد آخر .
إني لأخشى أن تكون عقيدة الإكراه في الدين وما دس على لفظة الجهاد وأدخل على معناها من معاني الإكراه بالباطل هو الذي صد الناس ولا يزال يصدهم عن سبيل الله ؛ فقد دشن عقيدة الإكراه ملوك بني أمية ، وأذاعوها منذ المائة الأولى لوفاة النبي صلعم وهذا تشويه لحقيقة الدين ، معذور من ينصد عن الدين بسببه ، إذا لم يعلم أنه مدسوس على حقيقة الدين ، معذور إذا دافع عن نفسه ضد المسلم الذي يريد إكراهه على هذا الدين ، معذور إذا قاتل هذا المسلم وقتله ؛ فالله يقول : (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [17/الإسراء15]) ، أي حتى نقيم الحجة ، ومن دس في الحجة ما ليس منها حتى عميت على الناس فقد أفسد هذه الحجة ، فدس عقيدة الإكراه في الدين قد أفسد الدين وأبطل حجته على من لا يعلم أن هذه العقيدة مدسوسة على حقيقة الدين حتى إني لأحسب ـ والله أعلم ـ أن بعض الذين قتلوا على الشرك وهم يدفعون عن أنفسهم الإكراه في الدين في الجنة ، لأنهم كفروا وهم لا يشعرون ؛ فماتوا كما يموت أهل الفترة ولم تقم عليهم حجة الدين ، أعنى صحيح وخالص وصافي وسالم وبريئ حجة الدين .
القرآن يحرم التعرض بسوء للمرتد المسالم
الفصل الثاني : لا حد ردة في الإسلام طبقا لنصوص القرآن .
أي إنها باطلة نسبة الآثار الآمرة بقتل المرتد المسالم ، نحو : (من بدل دينه فاقتلوه) ، إن كان المعنى : (من كفر بالله بعد إسلامه فاقتلوه) ، وباطلة نسبة أي خبر ينسب إلى رسول الله صلعم أو إلى أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم في قتل المرتد عن الإسلام لمحض ردته ، وجلاء ذلك بتدبر النصوص القرآنية التي تحرم التعرض بسوء للمرتد المسالم كما يلي :
من كفر بالله بعد إيمانه فهو مرتد ، ومن ارتد وأعلن ردته فهو مرتد مطلقاً عندنا وعند الله تعالى ومن ارتد وأخفى ردته فلم نطلع عليها فهو عند الله تعالى مرتد منافق وعندنا مسلم ، ومن ارتد وأخفى ردته لكننا اكتشفناها رغم محاولته إخفاءها فهو عند الله تعالى وعندنا مرتد منافق . والمرتد المنافق عند الله المسلم عندنا ، مرتد باعتبار حقيقة ردته ، منافق باعتبار محاولته إخفاءها ، مسلم باعتبار ظاهر إسلامه لنا . وليس هناك أحكام خاصة بالمنافقين تميزهم عن الكافرين إذا ظهرت حقيقتهم ، كما أنه ليس هناك أحكام خاصة بالمنافقين تميزهم عن المسلمين إذا خفيت حقيقتهم . فالنفاق وصف إضافي للكافر المعلومة حقيقته باعتبار محاولته إخفاء كفره ، لكن هذا الوصف لا يرتب أحكاماً على هذا المنافق غير الأحكام المقررة بشأن الكافرين . فمن نافق فلم نطلع على نفاقه فهو مسلم عندنا تجري عليه أحكام المسلمين ، ومن نافق فاطلعنا على نفاقه رغم محاولته التخفي فهو كافر عندنا تجري عليه أحكام الكافرين ، فإن كان نفاقه بعد إيمان فهو مرتد . وليس هناك أحكام تخص من ارتد بعد إيمان حقيقي ، وتميزه عمن ارتد بعد إسلام ظاهري خال من حقيقة الإيمان ؛ لأنه لا أحد إلا الله تعالى يعلم من هو مؤمن حقاً ممن هو مسلم في الظاهر عار عن حقيقة الإيمان ، فمن تظاهر بالإسلام ثم ارتد فعرفناه مرتداً رغم محاولته التخفي فهو مرتد تسري عليه أحكام الكافرين بعد إيمان .
وهذه التقدمة ضرورية قبل تدبر النصيين التاليين حتى لا يعترض بأن الآيات في المنافقين لا في المرتدين ، فالمنافق إذا اكتشف نفاقه حكمه حكم المرتد المعالن بردته .
أولا ـ النص اليقيني الأول في المرتد المسالم .
قوله تعالى : (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً * وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً * إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَآؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا * سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَـئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً [04/النساء88ـ91]) هذه الآيات نزلت في مرتدين ، بدليل أن هؤلاء المنافقين معروف نفاقهم ، فقوله تعالى (فخذوهم واقتلوهم . . .) دليل على أن نفاقهم قد انكشف ، فهم معروفون ؛ إذ كيف يأمر الله بأخذ وقتل من لا تعرف عينه ؟ وإذن فهؤلاء مرتدون عندنا ، تجري عليهم أحكام الردة بعد إيمان . وقوله تعالى (فخذوهم واقتلوهم) هو حكم الله فيهم . لكن الله استثنى من هؤلاء المرتدين فرقاً ثلاثة حرم قتلهم أو التعرض لهم رغم ردتهم :
1 ـ الفريق الأول : في قوله صلعم : (إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ) أي ينتقلون من دار قومهم إلى دار قوم آخرين مسالمين لكم ، وفيه دلالة على أن قومهم حرب على المؤمنين . وأن انتقالهم من دار قومهم المحاربين للمؤمنين إلى دار كفار آخرين مسالمين للمؤمنين اختيار منهم للمسالمة ؛ إذ لابد لهم من التزام ميثاق مضيفيهم وهو مسالمة المؤمنين
2 ـ الفريق الثاني : في قوله تعالى : (أَوْ جَآؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ) ، أي جاؤوكم وأعلنوكم بأنهم لن يقاتلوكم مع قومهم ولن يقاتلوا معكم قومهم ، فهؤلاء اختاروا المسالمة بالوقوف على الحياد بينكم أيها المؤمنون وبين قومهم الكافرين المحاربين لكم .
فهذا الفريقان حقن الله دماءهما وحرم على المؤمنين التعرض بسوء لهما فقال : (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا) .
3 ـ أما الفريق الثالث : فمذبذبون ، إذا لقوا الذين آمنوا قالوا إنا معكم على عدوكم ، وإذا لقوا قومهم أعداء المؤمنين انقلبوا على أعقابهم . وهؤلاء مد الله لهم حبال العذر ، فعلق شأنهم على ما سيكون منهم من فعل في واقع الأمر فقال : (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ) أي (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فلا تأخذوهم ولا تقتلوهم) وهذا هو المفهوم من ذكر الشرط ؛ فليس في السياق أي فائدة للتخصيص بالشرط غير المخالفة المفهومة من هذا التخصيص ، وبدونها يغدو الشرط لغواً ، والقرآن منزه عن اللغو ، لاسيما ومفهوم هذا الشرط لا يخالف منطوق أي نص قرآني بل ويوافق منطوق (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) .
فهذه فرق ثلاث حقن الله دماءهم وحرم التعرض لهم ، رغم ردتهم وبقائهم على الردة ، وهم موصوفون بأوصاف ثلاثة يجمع بينها كلها معنى المسالمة ، فالفريق الأول سالم بالمقام بين المسالمين ، والثاني أعلن المسالمة بإعلان الحياد ، والثالث فعل المسالمة بعد تذبذب . فإذ نظرنا فيما يتبقى من المستثنى منه بعد هذه الاستثناءات الثلاثة فلن نجد إلا فريقاً واحداً رابعاً فقط ، هم المتبقين تحت طائلة الطلب والأخذ والحصر والقتل ، ألا وإنهم هم المحاربون للمؤمنين . فالفرق الأربعة كلهم مرتدون ، لكن بعضهم حلال الدم وبعضهم حرامه ، ولو كان مناط حكمهم هو الردة لما فرق الله بينهم بحل دم بعضهم وتحريم دم سائرهم .
وبهذا يتجلى أن مناط الحكم شيء آخر غير محض الردة ، فالمسالمة جمعت الفرق الثلاث فاتحد حكمهم ، فكانت وحدة الحكم دليلاً على أن سببه هو وحدة الوصف الجامع لهم ، وهو المسالمة ، أما الفريق الرابع فانفرد بالمحاربة وانفرد بحكم القتل ، فدل انفراده بحكم القتل على انفراد وصف المحاربة بالتسبب في هذا الحكم ، ويتجلى في النهاية أن المرتد المسالم دمه حرام ولا يحل التعرض له بسوء .
ثانيا : النص اليقيني الثاني في المرتد المسالم .
هو قوله تعالى : (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ * وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ * وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ * وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ * رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ * لَـكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [09/التوبة81ـ96]) .
فقوله (إنهم كفروا) نص على كفرهم ، وكذلك قوله : (إنهم رجس ومأواهم جهنم) ، وسياق الآيات كله يدل على أن الرسول والمؤمنين يعرفونهم ، فهؤلاء إذن مرتدون معروفون حكمهم حكم المرتدين الذين كفروا بعد إيمان .
وقوله : (يعتذرون) كشف لمحاولاتهم إخفاء نفاقهم ، وكذلك قوله : (قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم) . والسياق كله يدل على أنهم مسالمون ، فهم يعتذرون ويحلفون بالله للمؤمنين ليسلموا منهم ، فهؤلاء إذن مرتدون معروفون لرسول الله ، ورغم ذلك نهى الله رسوله عن التعرض لهم بسوء فقال : (فأعرضوا عنهم) .
ثالثا : النص اليقيني الثالث في المرتد المسالم .
وهو النص العام : (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) ، فكما أنه لا يجوز استعمال الإكراه لإدخال الناس في الدين ، فكذلك لا يجوز استعماله لمنعهم من الخروج منه ؛ فكلتا الحالتين إكراه في الدين . والآية لم تخص أياً منهما دون الأخرى بالنهي ، ولا خصت أيا منهما به أي آية غيرها في القرآن . وأما التعلل بكيد الذين يقولون آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ، والتذرع بحماية الدين من المتلاعبين ، فافتئات على القرآن ، وتقديم بين يدي الله ، وغفلة عما أكدته عوادي الزمان في الأنفس والآفاق . فالإكراه لا يمنع وقوع الكفر ، إنما يمنع ظهوره ؛ فيظل النفاق ينخر عظام الدين ، وأهل الدين لا يشعرون ؛ فلا يعالجون أسبابه ولا يفندون الشبهات التي أدت إليه ، ويظل النفاق في ازدياد حتى تقوى شوكة أهله ، وبعدئذ وفي أول فرصة تواتيهم يقلبون النظم الاجتماعية رأساً على عقب ، ولا أعني بالنفاق معناه الضيق ، وإنما أعني حتى نفاق الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض ، ونفاق المتدينين الذين يكفرون ببعض الدين لأنهم لا يرونه ديناً ، بينما يؤمن آخرون غيرهم به ، ويكفرون بما يؤمن به الأولون لأنهم لا يرونه ديناً ، أعنى أيضاً نفاق هؤلاء أو ما يسمونه التقية ؛ لما يناله كل منهم من عنت حين يحكمه من يؤمن بما يكفر هو به ويكفر بما يؤمن هو به ، فإذا حكم الشيعة كره السنة ، وإذا حكم السنة كره الشيعة ، وإذا حكم الحنابلة كره الأحناف . . . وهلم جرا ، حتى يصل العنت أن يتمنى المحكوم منهم أن يحكم بغير ما يعلم من إسلام هؤلاء الحكام ؛ لعل الوطأة تكون أخف . وإني لأحسب أنه لولا أن هذه الحال التي وصفت كانت مائلة في المسلمين يوم غزاهم أعداؤهم وأشاعوا فيهم الفواحش والحكم بغير ما أنزل الله ما غزوهم ، ولولا أن هذه الحال بقيت بعد جلاء الغزاة ولا تزال لما بقينا اليوم شائعة فينا الفواحش محكومين بغير ما أنزل الله ، ولما بقيت أحوالنا في واد وتعاليم القرآن في واد آخر .
إني لأخشى أن تكون عقيدة الإكراه في الدين وما دس على لفظة الجهاد وأدخل على معناها من معاني الإكراه بالباطل هو الذي صد الناس ولا يزال يصدهم عن سبيل الله ؛ فقد دشن عقيدة الإكراه ملوك بني أمية ، وأذاعوها منذ المائة الأولى لوفاة النبي صلعم وهذا تشويه لحقيقة الدين ، معذور من ينصد عن الدين بسببه ، إذا لم يعلم أنه مدسوس على حقيقة الدين ، معذور إذا دافع عن نفسه ضد المسلم الذي يريد إكراهه على هذا الدين ، معذور إذا قاتل هذا المسلم وقتله ؛ فالله يقول : (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [17/الإسراء15]) ، أي حتى نقيم الحجة ، ومن دس في الحجة ما ليس منها حتى عميت على الناس فقد أفسد هذه الحجة ، فدس عقيدة الإكراه في الدين قد أفسد الدين وأبطل حجته على من لا يعلم أن هذه العقيدة مدسوسة على حقيقة الدين حتى إني لأحسب ـ والله أعلم ـ أن بعض الذين قتلوا على الشرك وهم يدفعون عن أنفسهم الإكراه في الدين في الجنة ، لأنهم كفروا وهم لا يشعرون ؛ فماتوا كما يموت أهل الفترة ولم تقم عليهم حجة الدين ، أعنى صحيح وخالص وصافي وسالم وبريئ حجة الدين .